ما زلت مهتمًا بإخراج الأفلام حتى الآن لنفس السبب الذي وددت من أجله أن أكون طبيبًا حين كنت طفلًا كنت فضوليًا تجاه سؤال: من يكون البشر؟
— المخرج الأسترالي جورج ميلر
لا شيء يعرف مسيرة جورج ميلر الإخراجية مثل «ماد ماكس». هذا هو الفيلم الخامس ضمن سلسلة أفلام بدأها جورج ميلر عام 1979 بفيلم محدود الميزانية سيحقق عند عرضه نجاحًا هائلًا ليتحول لاحقًا لواحدة من أكثر السلاسل نجاحًا وتأثيرًا في تاريخ السينما. مع ذلك، لم تفقد حكاياته روحها الأصيلة ولم تتحول إلى ماركة تجارية حتى في ظل ميزانيات الإنتاج الضخمة التي عمل ميلر من خلالها. يشعرك ميلر مع كل فيلم جديد أنه لا يعيد تدوير الأفكار القديمة أو يستنزف مخيلته.
نادرًا ما تملك عوالم الأبوكاليبس مثل تلك الجاذبية والحيوية التي يمنحها ميلر لأفلامه. يلقي بنا في قلب دستوبيا قاحلة مليئة بالغرابة البصرية ولا تخلو من سخرية مضمرة. عالم لاهث لا يكف عن الحركة. هلاوس عالم مدمر وعنيف يشبه عالمنا. مهما تطرفت رؤية ميلر للأرض القاحلة كمكان للقسوة الخارجة عن القانون مدفوعة بغريزة الدمار الذاتي الذي نجلبه على أنفسنا، يمكننا دائمًا التواصل مع شخصياته فهم معاناة أبطاله.
ميلر حكاء عظيم، كل شيء في فيلمه خاضع للحكاية. للحكاية وشخصياتها دائمًا الأولوية الأولى. حكاياته قديمة وشخصياته نماذج إنسانية أصيلة أو نماذج أولية بتعبير يونج. حكايات يمكن أن تستمع إليها حول نار ساحر القبيلة. حكايته هنا عن طفلة اختطفت من أحضان عائلتها إلى عالم شديد القسوة والوحشية. تفعل كل ما بوسعها كي تعود من جديد. هذه الطفلة هي فيوريوسا بطلة فيلمه السابق «Mad Max: Fury Road» الصادر في 2015.
استقبلت شخصية فيوريوسا التي أدتها تشارليز ثيرون في «طريق الغضب» بحفاوة بالغة من النقد النسوي وتحولت سريعًا إلى أيقونة سينمائية نسوية. ميلر ليس بمخرج أيديولوجي، إنه قفاء أثر، يقتفي أثر حكايته.
لقد تخيل «طريق الغضب» في حلم يقظة أثناء رحلة عبر المحيط الهادئ. فكر ماذا لو كان الـMacGuffin - وهو الشيء الذي يطارده الجميع في أفلام الإثارة والجريمة - بشرًا؟ الماكجافن في أدب الخيال، هو غاية أو أداة محفزة لسير أحداث القصة ومحركًا لشخصياتها. ومن هنا أتت فكرة تحرير زوجات إيمورتان جو سيد الأرض القاحلة. كان ميلر يدرك أنه يستحيل أن يكون من يقود المركبة التي تحمل الزوجات رجلًا، فهذه قصة مختلفة تمامًا. كان بحاجة لامرأة تقود مركبة أحلامه ومن هنا أتت شخصية فيوريوسا. بدأ برسم حياة كاملة لها قبل أن نلتقي بها في طريق الغضب. ومن هذه التفاصيل التي أعدها كخلفية للشخصية ولد فيلمه الأحدث. كان ميلر إذا يتبع منطق حكايته، وما يحسب لميلر أنه خلق من فيوريوسا نموذجًا مضادًا لبطلات أفلام الحركة السائدة؛ شخصية قوية لكنها متعاطفة. شخصية تملك ضعفها الخاص.
بوستر فيلم «Furiosa: A Mad Max Saga»
على الرغم من كل الغبار والضجيج الذي تثيره مركبات ميلر التي تجوب قفار الأرض القاحلة، فإن أفلامه في نهاية المطاف هي دراسة متعمقة لشخصياته التي لا تنسى. هذا هو وعد فيلمه الأحدث، إنه رحلة في تاريخ فيوريوسا الشخصي قبل أن نعرفها في «طريق الغضب»، كيف تشكلت شخصيتها وكيف تمكنت من البقاء في هذه الأرض الخراب دون أن تخسر روحها تمامًا.
فيوريوسا التي سقطت بمأساة صادمة من طفولتها مجبرة على الصمت وعلى إخفاء هويتها. كل مشاعر الفقد والخسارة والذنب تتحول إلى غضب خام بداخلها يمكن رؤيته جليًا في عيني آنا تايلور جوي الواسعتين، التي تؤدي دور فيوريوسا بعد مرحلة الطفولة مثلما تراها في عنفها وإصرارها. إنها تتعلم أثناء الركض، لا وقت للتفكير بل الغريزة والحدس، عليها أن ترتجل طريقها خارج هذا العالم.
إنها وحيدة تمامًا في حذرها وخوفها قبل أن تلتقي جاك/ توم بيرك قائد مركبات إيمورتان جاك. يمنحها جاك شخصًا يمكنها الثقة به ومعلم أيضًا خبير بدروب الأرض القاحلة.
تمنح هذه العلاقة للفيلم ثقلًا عاطفيًا مفاجئًا. إنه شيء آخر تمامًا أن تشاهد امرأة تكافح من أجل البقاء في عالم يلتهم كل شيء حي. يؤطر ميلر كثيرًا بطلته بجسدها الضئيل أمام شساعة وخطر العالم المحيط. هذه الضآلة البدنية أمام قسوة العالم تخدم الحكاية بالطبع. جاك وفيوريوسا كلاهما شخصيتان قويتان لكنهما متعاطفان، لم تستطع الأرض الخراب أن تنفذ بكاملها إلى أرواحهم. في عالم مختل مثل الأرض القاحلة، ما هي الإنسانية، ما هو الأمل؟ في لقاء شخصيتين متعاطفتين مثل جاك وفيوريوسا لم ينفذ الخراب بعد لكامل أرواحهم شيء من الأمل.
(يوجد حرق لبعض أحداث الفيلم بداية من هذه الفقرة)
تبدأ الحكاية في المكان الأخضر، واحة أمومية مخفية، بها وفرة من الغذاء والماء، جنة وسط خراب الأرض القاحلة. هذا هو المكان الذي نلتقي فيه بالطفلة فيوريوسا (أليلا براون) وهي تتسكع مع أختها فالكيري. تقطف ثمرة مغوية لم يكن لها أن تقطفها لقد ذهبت أبعد مما ينبغي أن تذهب معرضة حياتها للخطر. فيرويسا متهورة، ربما تلك خطيئتها الأصلية. يتم اختطافها من قبل عصابة راكبي الدراجات النارية المتجولين التابعين لأمير حرب مختل يدعى، ديمنتوس (كريس هيمسورث)، ثم تقتل الأم في رحلة استعادتها، ما يفتح في السرد قوس انتقام لا ينتهي سوى مع نهاية الفيلم.
يتعلق ديمنتوس بالطفلة الصغيرة هو الذي فقد طفلته في زمن آخر متجولًا بدمية دب قذرة حول صدره، قبل أن يسلمها في صفقة إلى إمورتان جو الحاكم المطلق للأرض القاحلة. ديمنتوس هو مثال عما يمكن أن تفعله الأرض القاحلة في أرواح البشر. في حصن سيد الأرض القاحلة تتنكر في هيئة طفل وتزج بنفسها داخل صفوف فتيان الحرب. مسار حكاية فيوريوسا بعد ذلك هو محاولات هروب مجهضة وبحث عن الانتقام من قاتل أمها. إنها تيمات إنسانية قديمة وأصيلة جدًا تخلق تعاطفًا مضمونًا لشخصياته.
نحن أيضًا أمام حكاية تمتلك بعدًا أسطوريًا مبطنًا. فيلم ميلر الأحدث هو في المقام الأول قصة أصل تروي قصة سقوط، سقوط من الحرية والطفولة في زمن موحش ولا إنساني. ميلر المتعمق في كتابات جوزيف كامبل قادر على بلورة شخصياته حول نموذج أصلي. فيوريوسا ومن قبلها ماكس هما نسخة محرفة من البطل الكلاسيكي. قصة ماكس أيضًا هي قصة سقوط، فبعد مقتل عائلته يتحول إلى محارب طريق وحيد تتلقفه دوائر التيه والعنف. الفرق بينهما أن فيوريوسا -كما شاهدنا في طريق الغضب- أقفلت دائرة الفقد والخسارة التي أطلقت دوائر عنف لا تنتهي. ميلر معلم سينما الحركة والإثارة يمنحك تجربة سينمائية يمكن معايشتها جسديًا كما روحيًا عبر تلك العواطف القديمة التي تختلج تحت سطح الحكاية الظاهر.
ينتهي الفيلم بتعزيز هذا المنحى الأسطوري للسرد، حين يكشف لنا مؤرخ الأرض القاحلة كيف انتقمت فيوريوسا من قاتل أمها. إنها تحوله إلى شجرة حين تزرع في جوفه بذرة تلك الثمرة التي حملتها معها من فردوس الطفولة والإرث الأخير لوالدتها. ميلر يمنحنا عند نهاية فيلمه واحدة من أفضل الصور السينمائية للانتقام.
جاء ميلر إلى السينما نهاية السبعينيات وهو يرغب في سرد القصص عبر الحركة متماهيًا مع أيقونات سينما الحركة التي أشعلت خياله، مثل «Bullit» و«Duel» أوفي «Ben Hur». يحكي ميلر حكايته وهو في حالة حركة دائبة خالقًا تتابعات حركة مذهلة من النادر مشاهدة مثيلها هذه الأيام. مما يمنح تتابعات ومشاهد الحركة في سينما ميلر هذه القوة هو أنه يعرف أن كل شيء مرتبط بالشخصيات وبالدراما.
يتعلق الأمر دائمًا بتفاعل الشخصيات داخل المشهد. هذه هي الإستراتيجية الأساسية لجميع مشاهد الحركة. وعبر الحركة يتكشف الصراع ولب الدراما. لديك رغبة شخصية، وأنت تضع العقبات في طريقها، عقبة بعد الأخرى فيتصاعد الصراع.
لا يخاطر ميلر أبدًا بالبقاء في مكانه. كل شيء في حالة حركة ولهاث، رقصات ممتدة ومتشابكة من المطاردة والعنف يفصلها لحظات قصيرة لالتقاط الأنفاس. ما الذي يدور حوله تتابع «Stowaway to Nowhere» المدهش بعيدًا عن المطاردة المحمومة؟ أنه عن فيوريوسا وجاك وكيف يتكشف جوهر هاتين الشخصيتين عبر الحدث. نرى تراكم مهارات فيوريوسا على مدار التتابع. هذا مهم جدًا لفهم مدى قدرتها، وحيلتها وإصرارها. يرى جاك فيها قوة وشجاعة يمكن الاستفادة منها بعد أن خسر طاقم عمله. ينتهي التتابع بتعاطف جاك مع مسعاها في الهرب خارج الأرض القاحلة وهي أيضًا ترى فيه معلمًا يمكن الوثوق فيه. بقية الرحلة هو تعميق الثقة بينهما. هذا التتابع الممتد لربع ساعة من زمن الفيلم واستغرق تصويره 78 يومًا هو نقطة تحول جوهرية بالنسبة لشخصية فيوريوسا. كل شيء مرتبط بالشخصية وتحولاتها. هذا ما يمنح عمقًا واضحًا لتتابعات الحركة المذهلة في تصميمها وديناميتها.
يفكر ميلر الذي بلغ مؤخرًا 79 عامًا في فيلم سادس من «Mad Max»، يتبع فيها ماكس قبل عام من أحداث فيلمه «طريق الغضب». ما زال ميلر يمتلك شهية للعالم الذي خلقه قبل ما يزيد عن أربعة عقود من الزمن، أمضاها يتجول داخل وخارج عالم ما بعد الكارثة الذي أبدعه وكأنه لا يستطيع الابتعاد عن عالمه الأثير.
# سينما # فن # فيلم Furiosa: A Mad Max Saga # سينما عالمية # مراجعات أفلام # مراجعات سينمائية # أفلام أجنبية